درس تعليمي 16 : الصلوات وأنواعها في الفقه المالكي من خلال نظم ابن عاشر
![]() |
درس تعليمي 16 : الصلوات وأنواعها في الفقه المالكي من خلال نظم ابن عاشر |
يقول عبد الواحد بن عاشر في مندوبات الصلاة في نظمه المرشد المعين على الضروري من علوم الدين:
فَصْلٌ وَخَمْسُ صَلَوَاتٍ فَرْضُ عَيْنِ *** وَهْيَ كِفَايَـــةٌ لِمَيْــتٍ دُونَ مَيْـــنِ
فُـــرُوضُهَا التَّكْـــبِيرُ أَرْبَـــعٌا دُعَا *** وَنِـــيَّـــةٌ سَـــلَامٌ سِــــرٌّ تَـــبِــعَا
وَكَالصَّـــلَاةِ الغُـــسْلُ دَفْنٌ وَكَفَنْ *** وَتْرٌ كُسُوفٌ عِيدُ اسْتِسْقًا سُنَنْ
فَــجْرٌ رَغِيبَــةٌ وَتُقْضَى لِلزَّوَالِ *** وَالْفَرْضُ يُقْضَى أَبَدًا وَبِالتَّوَالِ
نُدْبٌ نَـــفْــلٌ مُطْــلَقًا وَأُكِّـــدَتْ *** تَحِيَّـــةٌ ضُحًــى تَرَاوِيحٌ تَـــلَتْ
وَقَبْلَ وِتْرٍ مِثْلُ ظُهْرٍ عَصْرِ *** وَبَعْـــدَ مَغْرِبٍ وَبَــعْدَ ظُــهْرِ
تعدّ الصلاة في الإسلام من أعظم العبادات وأرفعها مكانة، فهي الركن الثاني من أركان الدين بعد الشهادتين، وهي أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة كما جاء في الحديث الشريف، فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله، ولهذا كان الاهتمام بالصلاة من أولويات التزكية والسلوك عند المسلمين، حيث تُعدّ الميزان الذي يزن به المسلم صدقه مع الله تعالى ومدى التزامه بشرعه، فهي لقاء يومي بين العبد وربه، ومنبع للسكينة والخشوع، وطريق لمغفرة الذنوب ورفع الدرجات وتكفير السيئات، ولذلك كان من الضروري تعلم أحكامها بدقة وفهم مراتب أفعالها.
وفي المذهب المالكي حظيت الصلاة بعناية خاصة، حيث أفرد لها العلماء فصولا واضحة في كتب الفقه ورسّخوا مفاهيمها في المتون التعليمية التي أصبحت تُحفظ وتُدرّس في الكتاتيب والمدارس العتيقة، ومن بين تلك المتون المتألقة نظم ابن عاشر الذي اختصر فيه أهم الأحكام الفقهية والعقدية والسلوكية بأسلوب سهل وعبارة رشيقة تحفظ وتفهم، فجعل للصلاة فصولا مفصلة تتناول أنواعها وفرائضها وسننها ومكروهاتها وشروطها، وقد سبقه لذلك علماء مثل ابن أبي زيد القيرواني في رسالته التي تعتبر مرجعا تربويا للمبتدئين في الفقه المالكي، كل ذلك يدل على مركزية الصلاة في بنية الفقه المالكي ومناهج التكوين العلمي فيه.
ولفهم أنواع الصلوات ومراتبها عند المالكية لا بد من إدراك الفرق بين الفرض والواجب والسنة والمندوب والنفل، فالفرض عند المالكية هو ما ثبت بدليل قطعي ويُكفّر جاحده ويأثم تاركه كالصلاة المفروضة، أما الواجب فهو ما ثبت بدليل ظني ويأثم تاركه دون أن يُكفّر جاحده، غير أن المالكية يميلون غالبا إلى دمج الواجب في الفرض ولا يميزونه كما تفعل بعض المذاهب، أما السنة فهي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه من غير إلزام، والمندوب ما ندب إليه الشارع ولم يوجب، والنفل هو ما زاد عن الفرض من الطاعات، ومن هنا يظهر التدرج المقصود في مراتب الأفعال داخل الصلاة، مما يعين المسلم على أداء العبادة بإتقان وفهم ويجنبه التفريط أو الغلو، ويساعد في ترتيب الأولويات أثناء الأداء أو القضاء أو التعليم.
إن إدراك هذا الفرق بين مراتب الأفعال هو ما يفتح الباب لفهم أنواع متعددة من الصلوات كصلاة الفرض وصلاة السنة وصلاة النفل وصلاة الكفاية وغيرها، ويجعل طالب العلم يتعامل مع كل نوع من هذه الصلوات على ضوء منزلته الشرعية وحكمه الفقهي، وهذا ما سنحاول الوقوف عليه من خلال هذا الدرس الذي نتناول فيه أنواع الصلوات في المذهب المالكي، انطلاقا من نظم ابن عاشر وغيره من كتب المعتمدات.
الصلوات المفروضة
الصلاة المفروضة هي تلك الصلوات التي أوجبها الله تعالى على عباده المسلمين وجعل أداءها شرطا لصحة إيمانهم واستقامة دينهم، فهي عبادة بدنية مخصوصة تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم تؤدى بأركان وشروط وهيئات محددة، وقد أجمع المسلمون على وجوبها وكونها فرض عين على كل مكلف بالغ عاقل لا يسقطها عنه إلا عذر معتبر كغياب العقل أو الحيض والنفاس بالنسبة للنساء. ويُقصد بالصلاة المفروضة في الاصطلاح أنها الصلوات الخمس اليومية التي فرضها الله تعالى على المسلمين في اليوم والليلة وهي الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقد سُميت مفروضة لأنها فُرضت فرضا لازما لا يسع المسلم تركها أو التهاون بها فهي من أعظم أركان الإسلام العملية.
أما من حيث وجوبها فقد ثبتت فرضيتها بالنصوص القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا" أي مفروضة بأوقات محددة لا يجوز إخراجها عنها، وقال سبحانه: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين" وهذه الآيات جاءت بصيغة الأمر، والأمر في لغة الشرع يفيد الوجوب.
ومن السنة جاء في الحديث المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس وذكر منها إقام الصلاة" وهذا يدل على أنها من أصول الإسلام التي لا يقوم بنيانه بدونها، كما أن فرضيتها جاءت أيضا من حادثة الإسراء والمعراج، حين فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم خمس صلوات في اليوم والليلة. وأما من جهة الإجماع فقد اتفقت الأمة سلفا وخلفا على أن الصلوات الخمس فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل، وأن من جحدها كفر ومن تركها تهاونا فقد عصى الله وعرّض نفسه للعقاب.
لهذا كانت الصلاة المفروضة أساسا متينا في بناء الدين ولا بد من الاهتمام بها تعلما وأداء وحرصا على إقامتها، كما أمر الله وعلى وجهها الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أنواع الصلوات المفروضة ( الصلوات الخمس اليومية )
الصلوات الخمس اليومية تمثل العمود الفقري للعبادة اليومية في حياة المسلم، فهي الفرائض التي فرضها الله عز وجل في كل يوم وليلة، وهي الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء. وقد جاءت مرتبة بطريقة توقظ الروح وتربط القلب بخالقه في أوقات متفاوتة من النهار والليل لتبقى صلة العبد بربه مستمرة لا تنقطع على مدار اليوم.
أما صلاة الفجر فهي أولى الصلوات وتؤدى بعد طلوع الفجر الصادق وقبل شروق الشمس، وعدد ركعاتها ركعتان، وهي صلاة مشهودة، كما وصفها الله تعالى وخصها بفضل عظيم، فهي وقت صفاء وسكون وتبدأ بها الروح نهارها بالإقبال على الله. ثم تأتي صلاة الظهر وهي تؤدى حينما تزول الشمس عن كبد السماء أي بعد الزوال مباشرة، وعدد ركعاتها أربع وتُعد بداية النصف الثاني من اليوم وتأتي بعد عناء العمل لتجدد الإيمان وتشحن النفس بالطمأنينة. تليها صلاة العصر وتدخل حين يصير ظل كل شيء مثله بعد الزوال، وعدد ركعاتها أربع أيضا، وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة الوسطى وخصها بالحفظ لما فيها من معانٍ عظيمة، فهي تصادف انشغال الناس وغفلتهم فكان أداؤها علامة على اليقظة الدائمة والحرص على عبادة الله. أما صلاة المغرب فتدخل عند غروب الشمس وتُؤدى ثلاث ركعات، وتعد بداية انتقال اليوم من النور إلى الظلمة، فهي لحظة استحضار نعمة النهار وشكر الله على ما مضى منه. وأخيرا صلاة العشاء وتدخل بغياب الشفق الأحمر، وعدد ركعاتها أربع، وهي ختام اليوم ووداعه بالتوجه إلى الله، وهي من أشد الصلوات ثقلا على المنافقين كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم لأنها تتطلب صبرا وتضحية في وقت رغبة النفس في الراحة.
والتوزيع الزمني لهذه الصلوات ليس عبثا بل فيه حكمة ربانية عظيمة، حيث تنتظم بها حياة المسلم وتُقسم أوقاته بين عمل وعبادة ومراجعة للنفس، فهي مواعيد ربانية تبني في النفس الطمأنينة والانضباط وتجعل حياة الإنسان متصلة بربه في كل مراحل يومه.
أما من ترك هذه الصلوات عمدا أو تهاونا فقد ارتكب إثما عظيما، فإن تركها جاحدا لوجوبها فقد كفر بإجماع الأمة، وإن تركها تكاسلا فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب واستحق التهديد بالعذاب، فقد جاء في الحديث أن أول ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله، وهذا يدل على خطورة التفريط فيها وضرورة الحرص على المحافظة عليها في وقتها بخشوعها وهيئتها.
صلاة الجمعة
تُعد صلاة الجمعة من أعظم شعائر الإسلام ومظاهر الاجتماع والتآلف بين المسلمين، وهي فريضة عظيمة لها منزلة خاصة في الشريعة الإسلامية. فقد فرضها الله تعالى في كتابه الكريم حيث قال سبحانه وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" وقد أجمع العلماء على وجوبها واعتبارها فرض عين على الذكور المكلفين المستوطنين القادرين على حضورها، فهي ليست مجرد بديل عن صلاة الظهر بل عبادة مستقلة لها شروطها وأركانها وسننها الخاصة بها.
ومن شروط وجوبها أن يكون المكلف ذكرا بالغا عاقلا حرا مقيما غير معذور بمرض أو سفر أو خوف، ولا تجب على النساء ولا على المسافرين ولا على أهل البوادي الذين لا يستوطنون الأمصار، ولا على الصبيان والمجانين، ومن فاته شرط من هذه الشروط سقط عنه الوجوب وإن كان له الأجر إن حضرها واستمع إلى خطبتها.
عدد ركعات صلاة الجمعة هو ركعتان تصلى جهرا بعد خطبتين متواليتين يخطب فيهما الإمام أمام الناس على منبر أو موضع مرتفع، يذكّرهم فيهما بأمر الله ويحثهم على تقواه وينذرهم من الغفلة والمعاصي، والخطبتان هما ركنان أساسيان في صحة الجمعة فلا تصح الصلاة بدونهما، ويشترط أن تكونا قبل الصلاة وأن يتخللهما جلوس خفيف، وأن تحتويان على حمد لله وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ووصية بتقوى الله وتلاوة شيء من القرآن الكريم.
وتمتاز صلاة الجمعة عن الظهر في كثير من الأمور فهي تُصلى ركعتين بدل أربع، وتُصلى في جماعة كبيرة غالبا، ويشترط لها خطبتان مسبوقتان بالصلاة، كما أن وقتها أضيق فلا يجوز تأخيرها إلى قرب العصر في حين أن الظهر يمتد وقته إلى دخول العصر، وكذلك فإن الجمعة مشروطة بالخطبة بينما الظهر ليس فيها خطبة.
وتُعتبر صلاة الجمعة فرصة عظيمة للتواصل بين أفراد المجتمع المسلم وفرصة للاستماع إلى الموعظة العامة وتذكير الناس بأمور دينهم ودنياهم، كما فيها إظهار لشعيرة الإسلام الكبرى، ففيها يلبس الناس أحسن ثيابهم ويقصدون بيوت الله في مشهد مهيب يعكس وحدة الصف وروح الجماعة، وهي فرصة كذلك لمراجعة النفس وتجديد التوبة والاستعداد لبقية الأسبوع بزاد إيماني وروحي قوي.
ومن ضيع الجمعة فقد أضاع خيرا كثيرا وقد ورد الوعيد الشديد في السنة لمن تركها تهاونا، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه" وهذا يدل على عظمة مكانتها وخطورة التفريط فيها.
صلاة الجنازة
تُعد صلاة الجنازة من الصلوات العظيمة في الشريعة الإسلامية التي تعكس عناية الإسلام بالميت وتكريمه بعد الوفاة، وهي عبادة ذات طابع جماعي تظهر فيها معاني التعاطف والتراحم والتكافل الاجتماعي في أبهى صورة، حيث يجتمع المسلمون لوداع أخيهم المتوفى والدعاء له بالرحمة والمغفرة والقبول عند الله تعالى، وهذه الصلاة ليست كغيرها من الصلوات ذات الركوع والسجود بل هي صلاة دعاء وشفاعة وطلب للخير للميت.
وصلاة الجنازة في الاصطلاح هي دعاء على ميت مسلم بالغ أو صغير ذكرا كان أو أنثى يؤدى بطريقة مخصوصة دون ركوع ولا سجود، وتكون عقب تجهيز الميت ووضعه أمام المصلين، ويشترط فيها الطهارة واستقبال القبلة وستر العورة وسائر شروط الصلاة المعروفة عند المالكية وسائر الفقهاء. أما حكمها فهي فرض كفاية عند جماهير العلماء وهو القول المعتمد في المذهب المالكي، ومعنى كونها فرض كفاية أن الأمة كلها مخاطبة بها فإن قام بها بعضهم سقط الإثم عن الباقين، وإن تركها الجميع أثموا جميعا، وهذا ما يميزها عن فرض العين الذي لا يُسقط عن أحد كصلاة الفريضة اليومية، ويدل على هذا ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أنه قال: "صلوا على من قال لا إله إلا الله" وهذا يدل على مشروعيتها وفضلها.
وقد سميت فرض كفاية لأن المقصود منها تحقيق مقصود شرعي عام يكفي فيه قيام طائفة من الناس، وهي تختلف عن الفروض التي تتعلق بذمة كل فرد فإذا قام بها جماعة تحقق بها المقصود الشرعي وهو الصلاة على الميت والدعاء له وتشييعه بما يليق بكرامته الإنسانية.
وتكمن الحكمة من فرضيتها على سبيل الكفاية في التيسير على الأمة، فإن الجنائز كثيرة والمشاغل قد تتعدد فلو فرضت على كل مسلم لتعذر الوفاء بها، ولكن الشرع راعى الحال واكتفى بأن يقوم بها من تحصل بهم الكفاية، وتبرز في ذلك أيضا قيمة الجماعة في الإسلام حيث تشترك الأمة في حمل هم المسلم حيا وميتا، ويمد له إخوانه في الله يد الدعاء والمغفرة بعد رحيله من الدنيا.
وصلاة الجنازة ليست فقط تكريما للميت وإنما تربية للأحياء وتذكير لهم بالموت والآخرة، فهي درس عملي في فناء الدنيا وزوال الأجساد كما أنها فرصة لاجتماع القلوب على دعاء الرحمة والرضوان لمن رحل، وفيها إشعار للحي بأن خلفه من سيدعو له كما دعا هو لإخوانه الذين سبقوه مما يزيد من اللحمة الدينية ويقوي أواصر المجتمع المسلم.
فرائض صلاة الجنازة و سننها
صلاة الجنازة عبادة عظيمة ومظهر من مظاهر التكافل والتراحم بين المسلمين، وهي تختلف في هيئتها وأحكامها عن سائر الصلوات المألوفة إذ لا ركوع فيها ولا سجود وإنما هي دعاء خاص وتوسل لله تعالى بأن يغفر للميت ويثبته عند السؤال ويبلغه منازل الرضوان، وقد حدد الفقهاء وخصوصا علماء المذهب المالكي ما يجب وما يستحب في هذه الصلاة بشكل دقيق منضبط وفق منهج علمي أصيل، وقد نظم ذلك ابن عاشر في منظومته التعليمية التي لقيت قبولا واسعا في تعليم المبتدئين.
فمن فرائض هذه الصلاة عند المالكية أربع لا تصح الصلاة إلا بها، أولها: التكبيرات الأربع، وهي أعمدة هذه الصلاة وفيها تعظيم لله تعالى واستحضار لجلاله، ويُكبر الإمام أربع تكبيرات متتابعة بعد كل واحدة منها دعاء مخصوص وهو ترتيب تعبدي لا يجوز الإخلال به، وثاني هذه الفرائض هو: الدعاء للميت، وهو المقصود الأساس من هذه الصلاة إذ يُتوسل إلى الله بأن يغفر له ويرفع درجته ويثبته ويجعل قبره روضة من رياض الجنة، وهذا الدعاء يُشترط فيه أن يكون للميت لا لغيره، وثالث هذه الفرائض هي: النية، وهي شرط في جميع العبادات فلا بد أن ينوي المصلي صلاة الجنازة ولو بقلبه دون تلفظ بها لأنها شرط لصحة القصد والتمييز بين العبادة والعادة، ورابع الفروض هو: السلام، وهو ختام الصلاة وبه تخرج من العبادة وهو من تمام الصلاة ولا يُجزئ تركه.
أما سنن هذه الصلاة وآدابها فهي كثيرة منها: الوقوف صفوفا خلف الجنازة حيث يتقدم الإمام أمام رأس الرجل أو وسط المرأة على القول المشهور، ومن السنن أيضا خفض الصوت في الدعاء والسكينة في الأداء وعدم الإطالة بما يشق على الحاضرين، ومن الآداب المهمة التي أوصى بها العلماء الحضور بقلب خاشع مستحضر لمعاني الموت والفناء والدعاء من أعماق القلب رجاء الرحمة للميت.
ويتميز المذهب المالكي ببعض الخصائص الدقيقة التي تخالف فيها بعض المذاهب الأخرى ومن أبرزها أن المالكية لا يقرؤون الفاتحة في صلاة الجنازة بل يكتفون بالدعاء للميت مباشرة بعد التكبيرة الأولى، لأن الفاتحة عندهم ليست فرضا في غير الصلاة ذات الركوع والسجود، كما أنهم لا يرفعون أيديهم عند كل تكبيرة وإنما يرفعونها فقط في التكبيرة الأولى، وهذا تفصيل دقيق انفرد به المالكية على غيرهم من المذاهب، وقد اعتمدوا في ذلك على آثار السلف وما جرى عليه عمل أهل المدينة وهو من المعايير الفقهية المعتمدة في المذهب.
فهذه الأحكام تعكس عناية الفقه المالكي بالتفصيل والاتباع وتحرير المسائل بدقة، وتؤكد أيضا على أن صلاة الجنازة ليست مجرد أداء بل هي عبادة تحتاج إلى معرفة وإتقان لكي يتحقق بها المقصود الشرعي من التراحم والدعاء والتشييع المبارك.
الصلوات المسنونة
النوافل في اللغة: مأخوذة من الفعل نفل ينفل نفلا، أي زاد وتفضل، ومنه قولهم أعطاه نافلة أي زيادة على الأصل، فهي تدل على ما يزاد عن الشيء المفروض أو الواجب. وأما في الاصطلاح الفقهي: فالنوافل هي العبادات التي شرعها الله عز وجل لعباده من غير إلزام، أي أنها ليست فرضا ولا واجبة ولكن أداءها فيه فضل عظيم وأجر كبير، وتركها لا إثم فيه، وهي تتعلق بكثير من أنواع العبادات وفي مقدمتها الصلاة.
وقد اعتنى فقهاء المالكية ببيان مراتب التكليف الشرعي في أبواب العبادات، ومنها مراتب الفعل الذي لا يكون فرضا ولا واجبا وإنما يندب فعله، وهنا يظهر الفرق بين المصطلحات الدقيقة التي تستعمل في هذا المذهب. فالسنة في اصطلاح المالكية تطلق غالبا على ما ثبت فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه مع ترك الإنكار على من تركه، أما المندوب فهو ما طلبه الشارع من غير إلزام وكان فعله راجحا على تركه، والنفل أعم من ذلك إذ يطلق على كل عبادة زائدة على الفرض سواء كانت مؤكدة أو غير مؤكدة.
ومن هنا فإن المالكية يفرقون بدقة بين السنة المؤكدة وبين المندوب وبين النفل المطلق، وكل ذلك بغرض توجيه المسلم في سلوكه التعبدي وضبط مراتب الأعمال عنده، فلا يجعل المندوب كالفريضة ولا يزهد في ما فيه فضل عظيم بحجة أنه ليس واجبا، وهذه المراتب تربي المؤمن على التوازن والانضباط في التدين.
أما الحكمة من تشريع النوافل فهي كثيرة ومتنوعة، فمنها جبر الخلل الذي يقع في الفرائض لأن الإنسان قد يخل بخشوعه أو شروطه في صلاته المفروضة فتأتي النوافل لتكمل هذا النقص، ومنها أنها سبب في القرب من الله تعالى فإن الله تعالى يتقرب إلى عبده بالنوافل حتى يحبه كما جاء في الحديث الصحيح، ومنها أنها وسيلة لدوام الصلة بالله في غير أوقات الفرائض فتجعل العبد دائم الذكر والانكسار والوقوف بين يدي ربه، وهي أيضا دليل على صدق المحبة والرغبة في الطاعة لأن الفرض يؤدى من باب الامتثال أما النفل فيؤدى من باب المحبة والزيادة، وهذه المعاني التربوية هي التي تجعل للنوافل مكانة عظيمة في الدين وفي تربية النفس على الصدق والإخلاص.
أنواع الصلوات المسنونة عند المالكية(السنن المؤكدة أو الرواتب)
تُعدّ الصلوات المسنونة من الأعمال التي أولى لها فقهاء المالكية عناية خاصة لما لها من دور مهم في تهذيب النفس واستكمال ما قد يقع من نقص في الفرائض، وهي على مراتب عندهم تتقدّمها السنن المؤكدة التي واظب النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها ولم يتركها إلا نادرا مما يدل على شدة حرصه عليها وهي تدل على علو مكانتها وفضلها العظيم.
ومن أبرز هذه السنن المؤكدة: ركعتا الفجر واللتان تُعرفان في اصطلاح المالكية بالرغيبة، وقد انفردوا عن غيرهم من المذاهب بقولهم إن هذه الرغيبة تُقضى إذا فاتت، ووقت قضائها يستمر إلى الزوال، فتُؤدى حينئذ بنية القضاء لا بنية الابتداء، وهذا التفصيل يُظهر دقة المالكية في ضبط أوقات النوافل وتوقيرهم لأحكام الشريعة.
أما السنن الراتبة الأخرى فتنقسم إلى نوافل قبلية وبعدية وهي التي تسبق بعض الصلوات المفروضة أو تلحقها وتُؤدى بنية التقرب والاتباع، وأهم هذه الرواتب عند المالكية ما يكون قبل صلاة الظهر ركعتين وما يكون بعدها أيضا وهو مستحب مؤكد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليه في أكثر أحواله. وتُسن كذلك ركعتان بعد صلاة المغرب لما فيه من دوام الصلة بالله بعد الفراغ من الصلاة المكتوبة، ولما ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم لها مع المواظبة. ويُستحب أيضا أن يُصلى المسلم ركعتين قبل صلاة العصر وهي ليست من السنن المؤكدة، ولكنها مندوبة عند المالكية ويُستحب أداؤها من باب الفضيلة والاجتهاد لا من باب الراتبة التي تُواظب في كل حال. أما بعد صلاة العشاء فيُستحب أن يُصلى المسلم ركعتين، وذلك لما فيها من فضل متابعة الصلاة بالنفل والتهيئة لصلاة الوتر التي تُختم بها الصلاة اليومية، وغالبا ما يكون وقت أدائها قبيل النوم وهي مما يُعين على الثبات في قيام الليل.
ومن خلال هذا العرض يظهر حرص المالكية على تصنيف السنن وترتيبها بحسب درجة التوكيد والمواظبة، كما يتضح في ذلك التزامهم بأقوال الصحابة والتابعين في تحديد الأوقات والمواقيت مما يعكس غزارة فقههم وعمق اجتهادهم في خدمة سنة النبي الكريم.
صلاة العيدين
تُعد صلاة العيدين من أعظم مظاهر الفرح المشروع في الإسلام وهي شعيرة عظيمة من شعائر الدين التي تميز الأمة الإسلامية عن سائر الأمم، فالعيد في الإسلام ليس مجرد فرح دنيوي أو مناسبة اجتماعية بل هو عبادة جامعة تتجلى فيها معاني الشكر والطاعة والانتماء لله ولجماعة المسلمين، وصلاة العيدين من السنن المؤكدة في المذهب المالكي وداوم النبي صلى الله عليه وسلم عليها وأمر بها حتى النساء كما جاء في الأحاديث الصحيحة.
ويُقصد بالعيدين عيد الفطر الذي يأتي بعد إكمال صيام شهر رمضان، وعيد الأضحى الذي يأتي في العاشر من ذي الحجة بعد يوم عرفة، وكلاهما يرتبطان بركنين عظيمين من أركان الإسلام وهما الصيام والحج، وهذا الارتباط يكشف لنا دلالة روحية وتربوية، وهي أن الفرح الحقيقي إنما يكون بعد الطاعة، وأن البهجة في الإسلام تنبع من الوفاء بحق الله لا من مجرد اللهو أو الانفلات.
أما عن فضل صلاة العيد فهي مظهر من مظاهر تعظيم الله وشكره على نعمه الكثيرة، وقد دل على فضلها ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من مواظبته عليها وحرصه أن يشهدها كل من قدر عليها حتى النساء وذوات الأعذار، بل إن تركها لمن قدر عليها يعد تفريطا في سنة عظيمة ومظهرا من مظاهر الجفاء في الدين، كما أن من فضلها اجتماع الناس في صعيد واحد يعلنون فيه توحيدهم وامتثالهم وطاعتهم لله تعالى بالتكبير والذكر والصلاة والخشوع.
ويبدأ وقت صلاة العيد بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح تقريبا ويمتد إلى الزوال أي قبل دخول وقت الظهر، ولكن يُستحب في عيد الفطر أن تُؤدى الصلاة متأخرة قليلا ليتمكن الناس من إخراج زكاة الفطر التي يجب أن تُعطى قبل الصلاة، أما في عيد الأضحى فيُستحب تقديم الصلاة لتُتاح الفرصة لذبح الأضاحي بعد الانتهاء منها وهذا الفرق في الوقت له حكمة متصلة بجوهر كل عيد ومقصوده.
أما عن طريقة الصلاة عند المالكية فهي ركعتان تُؤديان في جماعة يكبر في الأولى ست تكبيرات بعد تكبيرة الإحرام وفي الثانية خمس تكبيرات قبل القراءة، ويُرفع فيها الصوت بالتكبير على وجه الجماعة، ويتقدم الإمام بخطبتين بعد الصلاة يتناول فيهما ما يناسب حال العيد من ذكر لله وبيان لأحكام العيد، والوصية بالتقوى والصلة والصدقة والفرح المشروع، كما يُستحب أن تُؤدى في المصلى خارج المسجد إلا لعذر كمطر أو ضيق أو غير ذلك. كما يُندب الغسل للعيد ولبس أحسن الثياب والتطيب للرجل والخروج ماشيا مع إظهار الفرح والتكبير من حين الخروج إلى وقت إقامة الصلاة، وأما النساء فيُشرع لهن الحضور دون تبرج أو مخالطة للرجال.
فكل هذه السنن والتفاصيل تكشف عن مقصد الإسلام في تربية النفوس على الفرح المتزن، وتثبيت معاني الشكر والطاعة وتعميق الشعور بالانتماء للأمة الإسلامية وتحقيق الاجتماع على ذكر الله لا على مجرد عادات مفرغة من المعنى، وهذا ما يميز الأعياد الإسلامية عن غيرها من أعياد الناس في شتى الأمم والثقافات.
صلوات سنن غير مؤكدة
تُعتبر السنن غير المؤكدة من الصلوات التي شُرعت ترغيبا في الخير وزيادة في القرب من الله تعالى، وهي تمثل مجالات واسعة لتطوع المؤمن وتعلقه بالعبادة وتُظهر رغبة العبد في تحصيل رضوان الله ودوام صلته به، وهي لا تلحقها مرتبة السنن المؤكدة في الإلزام والمواظبة لكنها تحمل فضائل كثيرة وتُستحب في أوقات مخصوصة وبكيفيات معلومة في المذهب المالكي.
ومن أبرز هذه السنن صلاة الضحى وهي من النوافل المندوبة وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة تبين عظيم أجرها، وتُعد صلاة الأوابين الذين يرجعون إلى الله في كل حين، ووقتها يبدأ بعد ارتفاع الشمس قيد رمح ويمتد إلى قبيل الزوال أي ما قبل دخول وقت الظهر، ويجوز أداؤها بركعتين أو أكثر على حسب قدرة المصلي ونيته وتُسن مثنى مثنى.
وتأتي بعد ذلك تحية المسجد وهي صلاة ركعتين يؤديهما الداخل إلى المسجد قبل أن يجلس، ويُقصد بها توقير بيت الله وتقديم الصلاة على الجلوس، ومن المعلوم أن المالكية لا يرونها لازمة لكل داخل بل يعدونها مندوبة فقط، فإن دخل الشخص بنية الصلاة أصالة سقطت عنه التحية، لأن المقصود منها تحقق الصلاة في ذلك الموضع لا الركعتان بعينهما.
وأما صلاة الوتر فهي من أعظم النوافل وأقربها إلى التأكيد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعها في سفر ولا حضر، ووقتها يبدأ بعد صلاة العشاء ويستمر إلى طلوع الفجر، وهي خاتمة لصلاة الليل، ويُسن أن تكون ركعة واحدة بعد شفع، وقد ذهب المالكية إلى أن الوتر يُصلّى بركعة واحدة تُسبق بركعتين شفعا، ويجوز ترك الشفع لكن الأفضل فعله، ومن أداها بثلاث ركعات بسلامين فلا حرج لكن يُكره أن تُجمع الثلاث في تشهد واحد.
وتأتي بعد ذلك صلاة التراويح التي تُؤدى في ليالي شهر رمضان، وقد أجمع المسلمون على مشروعيتها لما ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها جماعة في بعض ليالي رمضان ثم تركها خشية أن تُفرض، فاستمر الصحابة على إحيائها في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأصبحت من شعائر هذا الشهر المبارك. وقد ذهب المالكية إلى أن عدد ركعاتها عشرون ركعة وهذا ما استقر عليه عمل أهل المدينة وهو المعتمد عندهم، وتُصلى ركعتين ركعتين مع التزام الجماعة في أغلب الأحوال ووقتها من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، ويُسن فيها طول القيام وتلاوة ما تيسر من القرآن ويفضل ختم المصحف فيها لمن قدر.
فهذه الصلوات تمثل ميادين عظيمة للتطوع والطاعة، وهي وإن كانت غير مؤكدة إلا أن فضلها عظيم وأثرها في تزكية النفس ظاهر، وفيها دلالة على أن العبادة لا تقتصر على الفرائض فقط بل تمتد لتشمل النوافل التي تزيد العبد قربا وتوفيقا.
صلوات ذات سبب
تُعد الصلوات ذات السبب من السنن التي شرعت لأحوال وأحداث خاصة تطرأ على الناس أو على الكون، فتُقام تعبيرا عن اللجوء إلى الله واستحضارا لعظمته وخضوعا لجلاله، وفي مقدمة هذه الصلوات صلاة الكسوف والخسوف، وهي صلاة تُشرع عند حدوث ظاهرة كسوف الشمس أو خسوف القمر، وتكون بمثابة تذكير للمؤمنين بعظمة الخالق وقدرته وأن ما في الكون من تغيرات هو بأمره وتدبيره. وقد ثبتت مشروعيتها في السنة الصحيحة، فقد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالصلاة عند وقوع الكسوف، وقد ذهب المالكية إلى أن صلاة الكسوف سنة مؤكدة تُؤدى في جماعة ويستحب فيها الإكثار من الذكر والدعاء والاستغفار، وتكون ركعتين في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان وسجدتان وتُصلى كسائر النوافل، غير أن التطويل فيها مستحب لأن المقصود بها الخشية والاعتبار.
أما صلاة الاستسقاء، فهي صلاة يُلجأ إليها عند انحباس المطر وجفاف الأرض، وهي من الصلوات المشروعة عند الحاجة إذ يُظهر الناس فيها افتقارهم إلى رحمة الله تعالى وتضرعهم إليه بأن يسقيهم الغيث، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي إذا قحط الناس فيخرج إلى المصلى متواضعا متذللا ويخطب فيهم ويدعو ويسأل الله الغيث. وقد نص الفقهاء المالكية على أن صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة إذا تأخر نزول المطر ويُشترط لها أن يُعلن عنها وأن يخرج الناس إليها على هيئة من الخضوع والتذلل في غير زينة ولا ترف، ويُندب أن تُقدّم بالتوبة والاستغفار ورد المظالم وصلة الأرحام لأن الذنوب هي من أعظم أسباب منع القطر. وتُصلى صلاة الاستسقاء ركعتين جهرا ثم يُخطب الإمام بعدها خطبة على الأرض ويبالغ في الدعاء في آخر الخطبة الثانية، يدعو فيها ويُكثر من الاستغفار ويحول الناس أرديتهم بعد الخطبة بأن يجعلوا اليمين على الشمال والشمال على اليمين في هيئة رمزية لرجاء تبديل الحال.
فهذه الصلوات ذات السبب تُظهر فقه الحال وسعة الشريعة في توجيه الناس إلى الله في كل مناسبة، وهي فرصة لتجديد الإيمان والعودة إلى الله في وقت الحاجة والكرب.
الصلوات التي لا تُقضى والتي تُقضى
من المسائل المهمة في باب الصلاة ما يتعلق بالقضاء وما يُقضى وما لا يُقضى، إذ أن معرفة ما يجب أداؤه بعد فواته وما لا يُشرع قضاؤه من السنن تدخل ضمن فقه التمييز بين الواجبات والمندوبات عند المالكية، ويُعد هذا التفريق من العلامات البارزة في مذهبهم لأنه ينبني عليه العمل عند التهاون أو النسيان أو العذر.
فالصلوات التي تُقضى على الإطلاق هي الصلوات الخمس المفروضة اليومية، وهي فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل فإذا فاتته واحدة منها بعذر أو بغير عذر وجب عليه قضاؤها متى ذكرها أو استطاع أداءها، ولا يسقط فرضها ولو بمرور الزمن لأن القضاء فيها واجب مطلق سواء فاتت بنوم أو نسيان أو عمد مع إثم في الحالة الأخيرة.
أما النوافل والسنن فإنها لا تُقضى عند المالكية إلا إذا وُجد عذر معتبر حال فوتها ومن أشهر هذه السنن التي يُشرع قضاؤها سنة الفجر وهي ركعتا الفجر المسماة بالرغيبة، فقد نص فقهاء المذهب على استحباب قضائها قبل الزوال إذا فاتت لعذر، ويُقصد بالزوال دخول وقت الظهر.
وقد ذكر ابن عاشر رحمه الله هذا المعنى بوضوح حين قال إن الرغيبة تُقضى قبل الزوال بخلاف غيرها من السنن الراتبة فإنها إذا فاتت لا يُقضى منها شيء عند المالكية، لأن وقتها قد فات بفوات سببها وقد عللوا ذلك بأن النفل المقيَّد بزمن خاص كالسنة القبلية أو البعدية، إذا فات وقته لم يُشرع قضاؤه إلا ما ورد فيه نص أو عمل الصحابة والتابعين.
وبناء عليه فإن القاعدة عند المالكية أن الفرض يُقضى مطلقا في كل حال بينما النوافل لا تُقضى إلا إذا ثبت النص في قضائها أو كان فوتها لعذر معتبر كسنة الفجر، كما أن قضاء النوافل عندهم ليس على جهة الوجوب بل على جهة الندب فقط. وهذا التمييز يُعين المكلف على معرفة ما يترتب عليه فعله من ترك أو تهاون، ويوجهه إلى الاعتناء بالفرائض أولا، ثم التحسين والتكميل بالنوافل دون تحميل النفس ما لم يُلزمها به الشرع، مع مراعاة التوازن بين أداء الواجبات واغتنام فرص الطاعات.
الصلوات المكروهة وغير المشروعة
من المسائل التي أولى لها المالكية اهتماما خاصا مسألة أوقات النهي عن الصلاة، وما يتبع ذلك من أحكام متعلقة بالمكروه أو غير المشروع من النوافل فيها، فقد ضبط فقهاء المذهب هذه الأوقات وحددوا ما يجوز فيها وما يُنهى عنه استنادا إلى ما ورد في السنة النبوية الشريفة من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في أوقات معينة.
وتُعرف أوقات النهي في اصطلاح الفقهاء بأنها الأزمنة التي يُكره فيها أداء بعض الصلوات وخاصة النوافل التي لا سبب لها، وتُسمى أيضا النوافل المطلقة، وقد قسمها المالكية إلى ثلاث فترات مشهورة وهي عند طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح، وعند استواء الشمس في كبد السماء قبيل الزوال، وعند غروب الشمس حتى تغرب تماما، وهذه الأوقات ورد فيها النهي الصريح عن الصلاة لما فيها من مشابهة لأوقات عبادة الكفار للشمس وهو المعنى الذي يُفهم من بعض الأحاديث.
وفي هذه الأوقات الثلاثة لا تُشرع النوافل المطلقة لأنها عبادة غير مرتبطة بسبب يُبيح فعلها، وإنما يُستحب فيها التوقف عن الصلاة تعظيما للشرع واتباعا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب".
أما النوافل ذات السبب كالتحية وسنة الوضوء وسجدة التلاوة وقضاء النوافل الفائتة فإن المالكية أجازوا أداءها في هذه الأوقات لأنها ترتبط بسبب طارئ يرفع عنها حكم الكراهة، إذ العلة في النهي وهي مشابهة الكفار أو مخالفة السنة تنتفي في النوافل ذات السبب. وكذلك أفتى المالكية بجواز صلاة الجنازة في أوقات النهي لأن فيها مصلحة عاجلة وهي الدعاء للميت، وقد ورد عمل الصحابة بذلك كما أن الصلاة عليها لا تتضمن ركوعا ولا سجودا فخرجت من علة النهي.
ومن هنا يتبين أن المالكية ميزوا بدقة بين النوافل التي تُفعل بسبب، والنوافل المطلقة التي لا سبب لها، فأجازوا الأولى ومنعوا الثانية في أوقات النهي حرصا على تحقيق مقاصد الشريعة في تنظيم العبادة وتوجيهها بما يحفظ هيبة الصلاة ويجنب المصلي الوقوع في مواطن الشبه والتشبه.
كما أن هذا التفريق يُعلمنا الانضباط الزمني في العبادة وأن الالتزام بالوقت له أثر كبير في قبول الأعمال، لأن العبادة في غير وقتها قد تتحول من طاعة إلى مخالفة إذا أُديت على خلاف الهدي النبوي، وذلك جزء من الفقه الدقيق في باب الصلاة الذي امتاز به المذهب المالكي.
أحكام فقهية تتعلق بأنواع الصلاة
من المسائل الفقهية المهمة التي تعرض لها علماء المذهب المالكي، ما يتعلق بأنواع خاصة من الصلوات، أو أحوال تؤثر في أداء الصلاة، كالجمع بين الصلوات، أو أداء الصلاة حال السفر أو المرض أو الخوف أو الحاجة، فقد فُصلت هذه الأحكام بدقة في كتب الفقه المالكي لبيان التيسير الذي جاءت به الشريعة ولتوضيح ضوابط كل حالة بما يحفظ هيبة الصلاة من جهة ويراعي ظروف المكلف من جهة أخرى.
فأما الجمع بين الصلوات فهو في الأصل رخصة تُمنح لعذر معتبر، ويُقصد به ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى في وقت إحداهما، كأن يُجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء، وهذا الجمع على نوعين جمع تقديم وهو أن تُصلى الصلاة الثانية في وقت الأولى، وجمع تأخير وهو أن تُؤخر الأولى إلى وقت الثانية، وقد أجاز المالكية الجمع في حالتين معتبرتين فقط الأولى في عرفة حيث يُجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم، والثانية في مزدلفة حيث يُجمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير، أما في غير ذلك فلا يُشرع الجمع إلا لسبب اضطراري كالمرض أو المطر الذي يشق معه الذهاب إلى المسجد.
أما القصر وهو أن تُصلى الصلاة الرباعية ركعتين، فحكمه عند المالكية سنة مؤكدة للمسافر إذا توفرت شروط السفر المعتبر شرعا ومن ذلك أن يكون السفر طويلا أي يبلغ مسافة القصر المقررة عندهم، وأن لا يكون السفر لمعصية، وأن تكون نية القصر موجودة عند شروعه في الصلاة، ويُرخص له القصر طيلة مدة سفره ما لم ينوي الإقامة أربعة أيام فأكثر.
وأما المريض فله أحكام خاصة تتعلق بكيفية أداء الصلاة حسب حاله، فإن لم يستطع القيام صلى جالسا، وإن عجز عن الجلوس صلى على جنبه أو مستلقيا مع الإيماء، فإن عجز عن الإيماء أتى بالنية والتكبير وذكر الله بقلبه، وهذا كله مراعاة لقاعدة التيسير والتدرج في التكاليف بحسب القدرة.
أما صلاة الخوف فهي صلاة تؤدى حال وجود خطر يهدد الجماعة كالعدو أو القتال، وقد وردت صيغ متعددة لأدائها في السنة النبوية ويعتمد المالكية فيها على الطريقة التي صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع، إذ تصلي طائفة مع الإمام وتبقى الأخرى مواجهة للعدو ثم تُبدل الطائفتان وهكذا، ولا يشترط فيها العدد الكامل أو الطمأنينة الكاملة بل يُراعى حال الخوف والاضطراب.
وأما صلاة الحاجة فهي صلاة يُقصد بها اللجوء إلى الله تعالى عند نزول حاجة أو وقوع كربة أو طلب أمر دنيوي أو ديني، وهي ركعتان يُصليهما العبد ثم يدعو الله بعدهما بما شاء من الدعاء ويسأل الله تفريج كربه، وقد وردت فيها أحاديث فيها ضعف لكن العلماء ذكروا مشروعيتها من باب جواز التوسل إلى الله بالصلاة والدعاء في غير الفريضة، وقد عمل بها كثير من السلف والفقهاء لأنها لا تخالف أصلا شرعيا.
ففي كل هذه الصور يظهر فقه التيسير في المذهب المالكي وكيفية تنزيل الأحكام على أحوال المكلفين بما يحقق المقصود من الصلاة، وهو التوجه إلى الله سبحانه وتعالى مع مراعاة ظرف الإنسان وقدرته وواقعه.
القيم التربوية من تنوع الصلوات
إن تنوع الصلوات في الإسلام ليس مجرد اختلاف في الأشكال أو الأوقات بل هو تنوع مقصود يحمل في جوهره معاني تربوية عظيمة، ويؤسس لمنهج متكامل في تربية النفس وتزكيتها وربطها المستمر بخالقها، فحين تتوزع الصلوات بين مفروضة وسنن مؤكدة ونوافل مطلقة وصلوات ذات أسباب، فإنها تبني في قلب المسلم شعورا دائم الحضور بربه وتخلق في وجدانه يقظة إيمانية لا تغيب.
وأول القيم التي تبرز من هذا التنوع هي تعزيز الصلة بالله تعالى على مدار اليوم، فإن المسلم إذا انتقل من صلاة الفجر إلى الظهر ثم العصر فالمغرب فالعشاء فإنه يبقى موصولا بالله قلبا وعملا، وإذا زاد على ذلك صلاة الضحى والوتر وسنة الفجر والتحية وغير ذلك صار يومه كله محفوفا بالوقوف بين يدي ربه، ومن كان في صلة دائمة بالله صعب أن تغلبه الغفلة أو تستقر في قلبه القسوة.
ومن القيم التربوية أيضا ما يتجلى في تربية النفس على الانضباط والمواظبة، إذ أن المحافظة على الصلاة في أوقاتها تنمي في الإنسان روح الالتزام والدقة واحترام الوقت والتخطيط ليومه بما يُمَكِّنه من أداء ما فرض الله عليه، كما تعوده الاتساق في العمل وعدم التهاون في أداء الواجبات، وهذه صفات لا تقتصر على الجانب التعبدي بل تمتد إلى حياة المسلم كلها في عمله ودراسته وسلوكاته اليومية.
ثم إن تنوع الصلوات يجعل المسلم يستحضر نية القرب من الله في كل فعل فهو لا يُصلي فقط لأنه اعتاد على ذلك، بل لأنه يريد التقرب إلى الله تعالى ويطلب رضاه، فكل نافلة تُعد بابا للترقي في مراتب الإيمان، وكل صلاة يُقبل فيها العبد على ربه تعزز فيه معنى العبودية الصادقة، ولهذا كانت النية حاضرة في كل صلاة ومع كل تكبيرة وكل ركعة، فالعبد يُصلي لله لا للناس ويبتغي من كل سجدة تقوية صلته بمولاه.
كما أن من أعظم القيم التربوية ما نلمسه في صلاة الجماعة والجنائز، حيث تتجلى مراعاة أحوال الناس والتفاعل معهم في أوقات الفرح والحزن، فصلاة الجماعة تُرسخ معاني التعاون والترابط والتساوي بين الناس في الصفوف والمقامات، أما صلاة الجنازة فتربي النفس على التواضع وتُذكرها بحقيقة المصير وتشحذ فيها الشعور بالرحمة والمواساة لأهل الميت والدعاء له في لحظات الوداع.
وهكذا فإن تنوع الصلوات لا يخرج عن مقاصد تربوية سامية، تسهم في بناء الشخصية المسلمة المتوازنة المتصلة بربها والمندمجة في مجتمعها، والمنضبطة في سلوكها والمستقرة في وجدانها، وهذه هي ثمرة العبادة إذا فُهمت كما أرادها الشرع وكما دلنا عليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
أسئلة التقويم و الإجابة عنها
- ما الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية في الصلاة؟
فرض العين هو ما يجب على كل مكلف بعينه أن يأتي به، ولا تبرأ ذمته إلا بأدائه، ومتى تركه كان آثمًا ولو أداه غيره، ومن أمثلة ذلك الصلوات الخمس المفروضة التي يجب على كل مسلم بالغ عاقل أن يؤديها في وقتها، وهي من أعظم الواجبات التي لا يسقطها عن المكلف سقوط التكليف. أما فرض الكفاية فهو ما يجب على مجموع المكلفين فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم به أحد أثم الجميع، وصلاة الجنازة مثال على هذا النوع، إذ يكفي أن يصليها بعض المسلمين لرفع الحرج عن الآخرين، لكن إذا لم يُصلَّ على الميت فإن الإثم يعم المجتمع القادر على أدائها. وتكمن الحكمة من هذا التمييز في توزيع المسؤوليات الدينية بين الأفراد والجماعة بما يحفظ الدين وييسر التكليف.
- اذكر فرائض صلاة الجنازة في المذهب المالكي.
تُعد صلاة الجنازة من فروض الكفايات، وقد بين علماء المالكية أن لها أربع فرائض أساسية لا تصح الصلاة إلا بها. أولها النية وهي شرط في جميع العبادات إذ لا تصح الصلاة بدون قصد أدائها تقربًا لله. ثانيها التكبيرات الأربع وهي الركن الظاهر الذي يُميّز صلاة الجنازة عن غيرها، ولا بد من الالتزام بعددها بلا زيادة ولا نقصان. ثالثها الدعاء للميت وهو جوهر هذه الصلاة وغرضها، ويجب أن يُدعى للميت بخير مغفرة ورحمة. أما الرابع فهو السلام في نهاية الصلاة للخروج منها، ويشترط فيه أن يكون بصيغة السلام المعروفة. هذه الأركان تُظهر عظمة هذا المقام وتختزل في صيغتها البسيطة معاني الرحمة والشفاعة والوفاء للمسلم بعد موته.
- ما هي السنن التي لا تُقضى إن فاتت؟
في المذهب المالكي هناك قاعدة عامة تُفرق بين السنن التي تُقضى وتلك التي لا تقضى، فالسنن الراتبة المؤكدة مثل ركعتي الفجر تُقضى إذا فات وقتها بعذر، ويُستحب قضاؤها قبل الزوال، أما النوافل غير المؤكدة فلا تُقضى عند المالكية، لأنها ليست في مرتبة الفرض ولا السنة الراتبة المؤكدة. مثال ذلك صلاة الضحى أو تحية المسجد إذا فات وقتها فلا يُشرع قضاؤها، لأن المقصود منها مرتبط بوقتها ومناسبته، وقد فاته السبب بزوال الوقت. وفهم هذا الحكم يعين المسلم على ترتيب أولوياته وعدم الخلط بين مراتب العبادات.
- بيّن كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب على النوافل.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أنه كان شديد الحرص على النوافل والسنن الرواتب، فكان لا يدعها في الحضر ولا في السفر إلا لحكمة، ومن أوضح الأمثلة ركعتا الفجر فقد قال عنهما إنه لم يكن يدعهما أبدًا وكان يقول عنهما "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها"، كما داوم صلى الله عليه وسلم على قيام الليل والوتر وصلاة الضحى وأمر بها أصحابه، وكان يحثهم على تحية المسجد ويُرغّبهم في السنن البعدية والقبلية للصلوات المكتوبة. هذا الحرص النبوي يعكس أثر النوافل في تهذيب النفس واستكمال النقص الواقع في الفريضة ويدل على مكانتها العالية في الميزان التربوي والسلوكي في الإسلام.
- ما حكم صلاة العيد في المذهب المالكي؟
صلاة العيد في المذهب المالكي تُعد سنة مؤكدة، وهي من السنن الجماعية التي يُشرع فيها الاجتماع وإظهار الفرح المشروع، وقد واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون من بعده، وكانت تُقام في المصلى ويُحضرها الرجال والنساء على حد سواء، بل أمر النبي حتى بخروج الحُيّض لكونها مظاهرة إيمانية عامة. لا تجب هذه الصلاة وجوب فرض العين ولكن تركها من غير عذر يُعد تفريطًا في سنة عظيمة ومخالفة لهدي النبي الكريم. والمالكية يوصون بالحرص على أدائها لما فيها من إحياء لسنة النبي وتوسيع لنطاق الجماعة الإسلامية التي تجتمع على الذكر والصلاة في مناسباتها الجامعة، وفيها من المنافع الروحية والاجتماعية ما لا يُحصر.
مواضيع ذات صلة
- درس تعليمي 15 : مكروهات الصلاة في المذهب المالكي وفق متن ابن عاشر: أحكامها وأنواعها وأثرها على الخشوع وكمال العبادة.
- درس تعليمي 14: مندوبات الصلاة في الفقه المالكي وفق متن ابن عاشر: أسرار تحسين الخشوع وزيادة الأجر في العبادة.
- درس تعليمي 13: أحكام الأذان وقصر الصلاة في الفقه المالكي: شروطها وأهميتها وفق متن ابن عاشر.
- درس تعليمي 12: سنن الصلاة في الفقه المالكي بين التأكيد والاستحباب وفق متن ابن عاشر.
- درس تعليمي 11: شروط صحة ووجوب الصلاة في الفقه المالكي وفق متن ابن عاشر: شرح وتحليل مفصّل.
- درس تعليمي 10: فرائض الصلاة في الفقه المالكي: شرح وتحليل وفق متن ابن عاشر.
- درس تعليمي 9: التيمم في الفقه المالكي: أسبابه وأحكامه وفق متن ابن عاشر.
- درس تعليمي 8 : صفة الغسل وموجباته في الفقه المالكي وفق متن ابن عاشر.
- درس تعليمي 7: فرائض الغسل وسننه ومندوباته في الإسلام وفق المذهب المالكي: شرح مفصل من متن ابن عاشر.
- درس تعليمي 6: أحكام نواقض الوضوء في الفقه المالكي وأهميتها في صحة العبادة.